بسم الله الرحمن الرحيم
نبذة عن حياة الوالد مكي عثمان أزرق – رحمه الله تعالى
نشأته وحياته العامة والخاصة
باسم الله والصلاة والسلام على الرسول الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ولد والدنا مكي عثمان أزرق حوالي عام 1890م بقرية صواردة من قرى المحس بدنقلا ، ثم رجع مع والده الأمير عثمان أزرق في أثناء حكم الخليفة ، ثم لما تبوأ والده منصب الأمير في الجيش الوطني يومذاك غادروا العاصمة عائدين إلى الشمالية لمواجهة جيش العدو.
عند سقوط أم درمان في يد الجيش الفاتح بعد موقعة كرري كان في عمر الصبا ، فهرب مع بقية أسر وأبناء الأمراء إلى وسط الأمراء إلى وسط إقليم الجزيرة بصحبة خاله ود دوليب الأمين إلى مدينة ود مدني ، وهناك واصل تعليمه ثم استقر لفترة من الزمن بالمناقل وبلدة الكنوز بالنيل الأزرق. وعند رحيل آل دوليب من المناقل وقد كان سر تجارها يومذاك سافر معه مكي إلى الأبيض ثم استقر به المقام في أم درمان ، وكان كثير التجوال ما بين العاصمة. وكردفان ولأسباب لم يفحص عنها قطع دراسته في كلية غردون قسم المحاسبة ، ونزل إلى الوظيفة ، وكان من القليلين الذين يجيدون علم المحاسبة أو ما يسمونها الدوية يومذاك.
وقد كان منزله حينذاك قبلة لنشـاط ثقافي ومنتدى سياسي ورياض كبير ، وبحكم الصلة بحركة الأنصار وأحد روادها كانت صلته وثيقة بجماعة الأنصـار ، وكان يعمي في وظيفة كبير حسابات مؤسسة الخواجة هنري جيد التجارية ، وكانت هذه المؤسسة من أكبر المؤسسات التجارية بالعاصمة ، والتي كانت تعمل في تجارة الصمغ والمحاصيل الأخرى ، إلا أن المؤسسة قد تعرضت عام 1939م إلى خسارة كبيرة بسبب أحوال المضاربات التجارية التي اضطرها إلى إعلان تفليسة مالية على أثر غادر الرجل إلى موطنه الأم في بلدة أسيوط من أرياف مصر ، وترك أمر التصفية للولد مكي وأمر بتسوية الديون ، وقد قام الوالد بهذا على أحسن وجه الشيء الذي أكسبه صداقة الرجل وتقديره له ، ولم تنقطع صلته به حتى مماته ، وفي تلك الأثناء كانت صلة الوالد وثيقة للغاية بالإمام عبد الرحمن المهدي – رحمه الله ، وقد كان من أقرب المقربين إليه ، بل قد كان يعتبر من أبرز مستشاريه. وفي أوائل الأربعينات أوكل إليه الإمام عبد الرحمن فتح وتأسيس دائرة المهدي ووضع نظام دفاترها وحساباتها وكيفية إدارة أعمالها هنا بالخرطوم والجزيرة أبا. وفي حوالي عام 1948م ترك العمل بدائرة المهدي لظروف خاصة محيطة بالعمل والتحق كمدير حسابات بمدبغة السودان ، نفس المدبغة الموجودة حالياً بمنطقة القماير – شمال أم درمان. وتعتبر هذه المدبغة من أعظم وأحدث المدابغ على مستوى العالم كله ، يمتلكها رجل أعمال يدعى محمد عبد العزيز – مصري الجنسية من أصل يهودي ، وظل يعمل بها حتى أوائل الخمسينات حيث أقعده المرض وصار أمر معيشته على بيع الطوابع فقط ، وقد ظل يقاوم المرض اللعين حتى أدركنه المنية في يوم 6/10/1953م.
كان الوالد - رحمه الله صاحب هوايات كثيرة كهواية رحلات الصيد البري مع رفاقه وأصدقائه أمثال العم الصاوي السنوسي ، والصاوي فضل الله ، ومحمد المصري ، وغيرهم بجانب التصوير والصور التذكارية له ولأبنائه ولكل الرحلات ، أما من أبرز وأهم هواياته فهي هواية جمع الطوابع ، وكان رحمه الله من الهواة المعروفين على مستوى العالم كله ، وله عدة مراسلين وأصدقاء في جميع أنحاء العالم وكان من القلائل الذين يمتلكون أندر أنواع الطوابع ، وقد حاز على عدة جوائز وميداليات في معارض دولية أقيمت لعرض الطوابع النادرة. وعندما كنت مرافقاً له في رحلة العلاج بالقاهرة اضطر لبيع مجموعة كبيرة منها لتغطية تكلفة العلاج الباهظة واشترى جزء من القيمة لوري تجاري ماركة فورد على أمل أن يعاونه على أعباء المعيشة. وبالفعل تم شحنه إلى الخرطوم ، ولكنه رحمه الله قد فارق الحياة قبل وصول اللوري إلى هنا ، أما قصة اللوري نفسها فهي قصة طويلة يضيق هذا المجال لرد تفاصيلها.
كان من أحب الأشياء إليه هو الإطلاع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، قبل كل شيء كان يداوم على تلاوة القرآن ، وكان يمتلك مجموعة كبير من المصاحف النادر المخطوطة باليد ، أذكر منها ذلك المصحف الضخم الذي افتقدناه ، وعلمنا أن بطرف خاله الشيخ مكي فضل الله بالأبيض ، وهنالك بقيم من ثلاثين جزء محفوظة لدى الأخ صديق بجانب مصحف والده عثمان أزرق ، وتلك المكتبة الثرة التي كانت تحتوى أمهات الكتب من الأدب العربي والتاريخ والعلوم السياسية وعلوم الفقه والدين ، والذي كان دائماً وأبداً يفتخر بها بجانب اشتراكه في جميع المجالات الأدبية التي كانت تصدر في العالم العربي كمجلتي الثقافة والرسالة واشتراكه في كل الجرائد السيارة اليومية الأخرى الخارجية منها والداخلية ، إلا أنه مع الأسف البالغ قد ضاعت هذه المكتبة ونهبت من الديوان في غفلة من الزمن.
قد كان – رحمه الله من المهتمين بأمري السياسة والرياضة في هذا البلد ، وطبعاً وكما تعلمون فهو أحد المؤسسين لنادي الهلال للتربية البدنية , وظل يحافظ برئاسة النادي إلى سنين عديدة ، بل كان يعتبر الأب الروحي له. وكم شهد هذا الديوان لقاءات واجتمـاعات واحتفالات لأسرة الهلال لفض النزاعات واحتواء المشكل ، وكانت كل هذه الأشياء موثقة ومدعمة بالصور التذكارية فلا أن القدر وحسن النية أفقدنا هذه الصور والوثائق الهامة ، وقد أخذها منََا ذلك الكيشو – سامحه الله في أخراه بدعوى الاستفادة منها في كتابه الذي ينوي إصداره عن نادي الهلال ، وعملنا المستحيل إلى إعادتها منه بدون فائدة وعند الله مجتمع الخصوم. هذا وقد كان له أن رافق فريق الهلال في كل رحلاته إلى خارج السودان ن وعند تقاعده بسبب المرض قررت إدارة نادي الهلال بتكريمه وتخليد اسمه ، واختير ليقوم بوضع حجر الأساس للنادي السبق خلف نادي الخريجين بأم درمان ، إلا أن إرادة الله عجلت بوفاته قبل اليوم المحدد ، وقد أوكل إلى وضع الحجر نيابة عنه ولاشك أنها لفتة مقدرة من جانب رفاقه وأصدقائه على رأسيهما المرحومين فوراوي وحمدنا الله أحمد.
كان الوالد – رحمه الله أحد مؤسسي مؤتمر الخريجين وعضو مجلس الأربعين وواحد من أقطابه الذين تم كرموا بمناسبة العيد الفضي لتأسيس مؤتمر الخريجين ، وقد تسلم الأخ الفاتح ميدالية التكريم نيابة عن أسرته عام 1986م بعد انتفاضة رجب أبريل. أيضاً يعتبر من مؤسسي حزب الأمة وعضو مجلس إدارته ومدير أدارة جريدة الصيحة التي كان يصدرها الحزب ضمن جرائده اليومية. هنالك جانب هام من حياته هو حبه الشديد للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والذين كانوا دائماً وأبداً يعج بهم ديوانه الرحب أيام الجمع من كل أسبوع خاصة أيام عطلات الأعياد..... أما تلك الخلوة ذات المصاطب من الأسمنت على جوانبها مع العديد من الأسرة والعناقريب عاش فيها الكثير من طلاب العلم من الشرق والغرب ، منهم من أكمل دراسته العالمية بمعهد أم درمان العلمي. أما عن الديوان وما كان عليه فلا أريد أن أمتن في هذا الأمر ولا بأمر الخلوة ن وكل ما أرجوه من الله سبحانه وتعالى أن يجزل العطاء للوالد والوالدات فاطمة والسارة وأن يجعل ما قدموه في هذا الشأن في ميزان حسناتهم ، وكان سلوكه رحمه الله سلوكه في هذه الحياة زهده الشديد في هذه الدنيا وكان زاده فيها الأول والأخير تقوى الله ومخافته ، ومن هذا المنطلق كان تعامله مع كل شيء مع أمه وزوجاته ونحن أبناؤه وأهله من ذوي الرحم والقربى وجيرانه على الأخص وأصدقائه ، وأستطيع أن أقول نحن أبناؤه الكبار الذين عشنا معه وعاصرناه فترة الطفولة والصبا وقدر يسير جداً فترة النضوج الذهني كان نعامله معنا تعاملاً حضارياً في كل صغير وكبيرة وفي كل هذه العهود كان يتبع معنا أسلوب اللين والحجة والدعابة ، وبهذا الأسلوب كان يحثنا على أمر العبادات خاصة الصلاة ، وبهذا الأسلوب كان يغرس في نفوسنا وقلوبنا الخير والفضيلة وحب بعضنا البعض وعلى كل ما يرضي الله ورسوله والمجتمع. حتى طريقة الأكل وآدابه أرشدنا لها ونحن في سن مبكرة من العمر ، وكفانا فخراً هذه الروح التي نعيشها الآن هي نتاج حرثه الطيب رحمه الله.