من طرف محمد مكي الأربعاء 26 يناير 2011, 11:17
كتب د. معز:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون فقد رحل عن دنيانا قبل أيام قليلة رجل بقامة أمة وسمو وطن ونقاء عقيدة، رجل صاحب دور عظيم ورائد في الحركة الإسلامية والوطنية في السودان، ولعلِّي أعود إلى ذلك بتفاصيل دقيقة لاحقاً بعد تلقي المزيد من المراجع والشهادات. هو خالي الغالي ووالدنا جميعاً الإنسان الفاضل والمربي العظيم والمجاهد الكريم عيسى مكي عثمان أزرق، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.
أول من تحدث عنه في وقائع الأحداث منذ طفولتنا وعبر مذكراتها كانت الوالدة الغالية زكية مكي عثمان أزرق حين كتبت عن النشاط الديني لدى الأسرة الكبيرة أسرة الأمير عثمان أزرق، وجدنا المرحوم مكي عثمان أزرق، وأرجعت الفضل فيه إلى أخيها عيسى، حيث أنشأ في البدء جمعية الأسرة المسلمة الأولى ومقرها منزل أسرتنا الكبيرة (الحوش) ببيت المال بأم درمان جوار منزل الزعيم إسماعيل الأزهري، حيث كن نخبة من النساء الفاضلات منهن على سبيل المثال سعاد الفاتح البدوي، وبثينة الشيخ القوصي، وثريا أمبابي، وكلتوم عمر، وسعاد مكي، وشقيقات الأستاذ صادق عبد الله، وكان النشاط السائد هو تلاوة القرآن ودراسة العلم الشرعي والفقه والتوحيد بهدف التربية الروحية. وقد توسعت هذه الأسرة، ومنها بُذرت النواة الأولى لجمعية الفتاة المسلمة في السودان.
الراحل عيسى مكي عثمان أزرق كما عرّفه صديقي أبو محمد بأنه علم من أعلام الحركة الإسلامية وحبر من أحبارها وموثق لصولاتها وجولاتها. وعيسى لمن لا يعرفه فهو رمز للزهد وعفة اللسان وطهارة اليد عاش في دنيانا متواضعاً بسيطاً وغادرها كما أراد الله له عفيفاً بسيطاً زاهداً. حياته زاخرة بالمجاهدات والعطاء لا يتحدث عنها في كتاباته ولا يعطيها مساحة للكلام أو الإعلام بل تتمثلها أعماله فهو قدوة لآل أزرق وأصدقائهم وأهلهم وذويهم. إن الحديث عن عيسى وعطائه وشموخه وصموده أمام المغريات لا يستطيع القلم أن يسطره بل نسأل الله أن تكون في ميزان حسناته وأن يتقبله قبولاً حسناً وينزله مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
أما ما قاله الراحل عيسى مكي عندما طُلب منه أن يكتب عن سيرته فيعتبر مثالاً يحتذى به في الزهد والعفة والتواضع الإنساني المحبب حين صاغ الكلمات التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان: إن الحمد لله رب العالمين
المعزّ المذل ذي الفضل العظيم..
أما وقد طلب مني أن أكتب عن حياتي وسيرة مسيرتي من أنْ نشأت إلى يومي هذا، فإني أسطّر هذه الكلمات التي لم أجد غيرها (ألوذ به) من صعوبة ما طلب مني، فأي سيرة أكتبها أزين بها المسيرة، وأي أحداث مررت بها وسيرة ما كان لي الفضل فيها، وأي سيرة خطوناها ما كنت إلا مسيراً فيها، ليس لي فيها إلا المقام، وليس لي فيها إلا الحركة والتنفيذ، خُططت خطواتها قبل أن أكون، ورسمت فعالها قبل أن أخوض فيها، فليس أمامي إلا أن أذكرها لهم فخراً أو عجباً أو ذكرى حسنة، أو عملاً أرى أنني وفقت فيه.. ذلك لي ما ليس لي أن أفعله. فلو كنت قد وفقت في حياتي بتوفيق من ربي فليس لي أن أفاخر به الآن، وأنا لا أدري إن كنت قد أحسنت وإن كنت لم أوفق في مسيرة طويلة عشرات السنوات زاخرة بكثرة أعمال، فليس أمامي إلا أن أعتذر عن ذكراها وبثها، أقول هذا كله لأعتذر عن أمر استحسنه الناس وكرهت أن أفعل به ما يفعلون، ولينظروا في ما رأوه مني طيلة هذه السنوات فيكتبونه، وهم أولى بي من نفسي أم يقولون ما يعلمون وليتقبلوا عذري هذا.. والله هو الموفق والمعين. أخوكم عيسى مكي أزرق.
الوالد والخال والإنسان عيسى مكي عثمان أزرق هو حفيد الأمير عثمان محمد عيسى، الشهير بعثمان أزرق نسبة للراية الزرقاء حيث كان أحد قادة المهدية. ولد بأم درمان في عام 1931م، وقد كان من أوائل الذين التحقوا بالحركة الإسلامية عام 1951م التي كانت تعمل باسم حركة التحرير الإسلامي، وكان ذلك بمدينة الفاشر حيث كان يعمل محاسباً بالحكومة، وكان أول من التقاه ودعاه للانضمام إلى تلك الحركة هو الأستاذ عبد الله زكريا الذي سبقه في مسيرة الحركة الإسلامية بجامعة الخرطوم التي لاحقاً أصبحت تحمل اسم جماعة الإخوان المسلمين في مؤتمر عام 1954م.
ظل عيسى مهتماً بالدعوة أكثر من الاهتمام بالمناصب السياسية ومحاولات الوصول إلى السلطة، فقد أصبح مسؤولاً عن منطقة أم درمان بعد وقت قليل من انضمامة إلى الإخوان المسلمين عضواً بالمكتب التنفيذي للحركة، ثم نائباً لأمير جماعة الإخوان المسلمين في السودان. وعيسى أكثر من وثَّق لحركة الإخوان في السودان وأصدر كتاباً في هذا الشأن، ولعل بمكتبته الكثير من الوثائق المهمة التي لم تبرز للنور بينما ظل الآخرون يتحدثون من ذاكرتهم عن هذه الأصول المهمة عبر وسائل الإعلام المختلفة.
يتحدث الراحل عيسى مكي في شهاداته وإفاداته المختلفة عن نشأة حركة الإخوان المسلمين بالسودان التي جاءت من مصر حين تمت دعوة الأستاذ جمال السنهوري إلى زيارة السودان عام 1944م، وكان لتلك الزيارة الأثر الكبير في تشكيل الجماعة ببعض مدن السودان فتم تعيين الأستاذ علي طالب الله أبرز القائمين على الدعوة في السودان من قبل المركز العام للجماعة في مصر مراقباً عاماً للإخوان المسلمين في السودان. بعد ذلك حضر إلى السودان الأستاذ عبد الحكيم عابدين وكيل الجماعة في مصر برفقة الأستاذ السنهوري في العام 1948م.
بدأ في ذلك الوقت ينمو تيار الوعي الإسلامي بجامعة الخرطوم بقيادة بابكر كرار وعبد الله زكريا ويوسف حسن سعيد ومحمد يوسف وأحمد محمد بابكر والرشيد الطاهر، أما خارج الجامعة فكان هناك رواد أمثال الأستاذ عز الدين الشيخ وعلي طالب الله وحامد عمر الإمام في أم درمان، وفي بحري أحمد شريف وعباس حسن التوم، وفي الأبيض إبراهيم أبو حسنين وعبد القادر الدقيل، وفي الفاشر أحمد بابكر حسن وعيسى مكي وجعفر محمد علي بخيت، وفي الخرطوم عبد الرحمن رحمة وصلاح أبو النجا، وفي مدني محمد سالم، وفي بورتسودان الريح الفاضل وإبراهيم رحمة، وفي عطبرة علي نور الدين... وغيرهم.
كان مؤتمر 1954م نقطة فاصلة في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في السودان، ويؤرخ له كأول مؤتمر اتفق فيه المؤتمرون على اسم الإخوان، فكيف جرت الأمور في ذلكم المؤتمر؟
نواصل في المقال القادم بقية إفادات الراحل عيسى مكي حول هذا الأمر، وغيرها من الشؤون الأخرى في الحوار الذي أجراه معه الأستاذ حسن عبد الحميد لموقع الإخوان المسلمين في السودان (الإصلاح) على الشبكة العنكبوتية.
مدخل للخروج:
اللهم ارحمه وأسكنه فسيح جنّاتك
اللهم باعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب
اللهم نقّه من الخطايا والذّنوب كما يُنَقّىَ الثّوب الأبيض من الدّنس
اللهم اغسله بالثلج والماء والبَرَد
اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله
اللهم اجمعنا وإيّاه في مستقرّ رحمتك
اللهم إنّا نسألك باسمك الأعظم أن توسّع مدخله
اللهم آنس في القبر وحشته
اللهم ثبّته عند السؤال
اللهم لقّنه حجّته
اللهم باعد القبر عن جنباته
اللهم اكفه فتنة القبر
اللهم اكفه ضمّة القبر
اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنّة ولا تجعله حفرة من حفر النار
اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته
اللهم ألحقه بالشُّهداء
اللهم افتح عليه نافذة من الجنّة واجعل قبره روضةً من رياضها
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.