هذه محاولة إضاءة في حق صديقي الكاتب محمد مكي عثمان أزرق، وقد نال توصية بمنحه أعلى الدرجات العلمية من قبل الدكتور إبراهيم محمد أحمد البلولة من جامعة إفريقيا العالمية تقديراً لكتابه [الشورى في إدارة المجتمع المسلم وسياسته].
ثلاثة التقينا على أعتاب العام 1963م في المدرسة الأهلية الوسطى بأمدرمان.. محمد مكي، وعمر بدوي مصطفى، وشخصي الضعيف، ومن حينها لا يفرقنا الزمان إلا ليجمع بيننا.
محمد وعمر على طرفي نقيض في كل شيء، وبالرغم من ذلك امتدت صداقتهما عمراً ليس بالقصير، ولا زالت.
ففي دنيا الرياضة وهي الأميز لهما كان عمر يشجع فريق المريخ ومحمد يشجع الهلال، وقد لعبا في فرق متنافسة سوى في المدرسة حيث كان عمر في فريق ج ومحمد في فريق أ.. أو في رابطة الملازمين حيث لعب محمد للمجد ولعب عمر للوحدة، وقد لعبا في خانات متشاكسة فمحمد كان مهاجما،ً في حين كان عمر حارساً للمرمى.. وكانا يلتقيان عقب المباراة ويسهران سوياً دون أن ينبسا بحرف عنها.
أما سياسياً فأسرتيهما كان لها هوى سياسي مختلف فوالد عمر "العم بدوي مصطفى" كان ختمي لدرجة الوزارة.. وجد محمد لأبيه "الأمير عثمان أزرق" هو أنصاري لدرجة الإمارة.
محمد كانت له نوازع إخوانية بسبب انتماء بعض أفراد أسرته وقتها.. وأذكر خروجي معه في مظاهرة فخمة ضخمة مطالبة بحل الحزب الشيوعي ونحن نهتف "نحن جنودك يا محمد" ولم أكن أعرف وقتها السبب في التظاهرة، مما يعني بأنني كنت أطرش في زفة مولد ولا يعرف صاحبه.
وقد انتابت عمر نوازع يسارية ولكنها انتهت عند أول ندوة استمع فيها لعبد الخالق محجوب في بدايات سيئة الذكر مايو.. فقد أخذني معه وهو يقول لي: سوف تستمع اليوم إلى الإلهام السياسي للرفاق.. وكان الشيوعيين وقتها يهللون لمايو ويلمعونها.
ولكن بعد خمسة دقائق فقط من المحاضرة التي بدأها عبد الخالق بقوله: ".. بأن تشخيص الاقتصاد يجب أن يؤخذ من قفة الحبوبة القادمة من السوق". انتفض عمر وقال لي: ".. هذا الرجل يخرف لأن 80% من أهل السودان هم رعاة ومزارعين وليست لديهم قفة تذهب للسوق".. وخرجنا تتبعنا نظرات الرفاق وكأننا تركنا خطبة جمعة.
غفر الله لهما فقد شاركت مع محمد مكي في المطالبة بحل الحزب الشيوعي، وشاركت مع عمر بدوي في التهليل لانتقام الشيوعيين من هذا الحل.. والحمد لله فقد توقفا بعدها عن الخوض في عالم السياسة مع المتطرفين.
أما فنياً فكان محمد من أنصار أحمد المصطفى وعمر كان يعشق غناء عثمان حسين.. ولحسن الحظ لم يمتلكا أي مقومات غنائية ليفلقاني بها، حيث كنت أفضل الحقيبة التي كانت رائجة وقتها.
وبالرغم من كل هذه الاختلافات في الهوى، السياسي والرياضي والفني، إلا أنني أشهد: بأنهما لم يكونا يتجادلان في هذه المجالات إلا لماماً وفي أوقات متباعدة، وكان إن تحدث أحدهما في شأن منها لا يتداخل الآخر في قبول غريب لرأي مخالف، بالرغم من أنهما كانا يقضيان معظم اليوم سوياً، سوى في المدرسة أو في منزل أحدنا أو في الحديقة القريبة من منزل الزعيم الأزهري.
ومن هنا أحيي هذا الحس العالي للصداقة بين الرجلين راجياً لهما التوفيق في مقبل أيامهم.. فقد ربطتني بأسرة محمد مكي أواصر صداقة امتدت عقودا... فقد واظبت على زيارة منزل "العم مكي عثمان أزرق" منذ أوائل الستينيات وحتى مغادرة آخر صحن للدار في أواخر العام 2008م برحيل صغير العائلة محمد إلى الحارة العاشرة بمدينة المهدية.