بسم الله الرحمن الرحيم
مشوار في حياة امرأة سودانية
نشأت في أسرة متوسطة الحال ، عريقة الأصل ، أهلها أهل دين وكرم. وأسرتي مكونة من والدتي وعمتي أم إخوتي وجدتي وعماتي وأشقائي التسعة عشر ، تسع بنات وعشرة أولاد ، نشـأنا مترابطين متحابين في ود وتعاون وصداقة ، فمنا الأديب والشاعر والفيلسوف الساخر والسياسي المحنك. كانت لنا جمعيات أدبية وفنية ورياضية وجمعية تمثيل ، نمثل بعض الروايات الهادفة والهزلية في الأمسيات ، ولنا جرائد حائط ومجلة ثقافية تصدر شهرياً لازالت باقية. يشاركنا هذه النشاطات بعض الطلبة الوافدين من الأقاليم ، والذين يعولهم والدي ، ولهم سكن خاص في المنزل ، ندَّخر بعض الملاليم من نثريات الفطور لشراء الورق والأقلام وما نحتاج إليه لتمويل جمعياتنا. وعندما يقيم الوالد احتفالاً بفوز فريق الهلال الذي كان يرأسه حينذاك ، وهو أحد مؤسسيه فقد كنا نساهم معه في شراء الثلج تشجيعاً لهم ومشاركة لفريق الهلال في أفراحه .مشوار في حياة امرأة سودانية
تربينا على حب الرياضة من الوالد ، وعرف الأخ صديق بمهارته في لعب كرة القدم ، فسموه في الحي "كراع جان". لنا صلات طيبة بجيراننا الذين هم من أسر كريمة ، أسرة المرحوم إسماعيل الأزهري والشيخ عبد الماجد أبوبلل والشيخ الرفاعي ومولانا القاضي عبد الرحمن الضرير وغيرهم .
العلم والتعليم :
كان الوالد رحمه الله مكي عثمان أزرق يحب العلم والتعليم فلم توقف التقاليد خروجنا عن البنات إلى المدرسة حيث كان تعليم البنات أمراً غير مستحب في ذلك الوقت .
دخلت روضة كلية المعلمات بأم درمان وعمري لم يتجاوز الخامسة ، وحظيت بحب معلماتي وزميلاتي وكنت أعرف بينهن بـ "بنت الأفندي" لأن والدي كان يلبس البدلة والطربوش حسب تفاليد الوظيفة ، بالرغم من أنها وظيفة محاسب في قطاع خاص .
انتقلت إلى المدرسة المتوسطة "أم درمان الوسطى الحكومية" أول مدرسة بنات متوسطة في السودان ، أُفتتحت عام 1940م في مباني معهد تدريب المعلمين الأوسط الحالي. جمعت هذه المدرسة بنات الأسر المعروفة في أم درمان وأخريات حضرن من الأرياف والمدن القريبة من العاصمة ويسكنَّ الداخلية .
كانت الدراسة متنوعة ، فندرس اللغتين العربية والإنجليزية والتربية الإسلامية والرياضيات والعلوم والمواد الاجتماعية والاقتصاد المنزلي والحياكة ، ونمارس بعض الأنشطة الرياضية كالجنباز والروندز بعد الظهر لأن التلميذات الخارجيات يتناولن وجبات الفطور والغداء في الداخلية ثم يرحلن بسيارات المدرسة إلى منازلهن في المساء .
تتكون وجبات الفطور من الفول المصري والجبنة أو العدس والسلطة وأحياناً الأرز وأكواب لبن. والغداء يتكون من الطبيخ والسلطة وموزتين أو برتقالة للتحلية ، ومصاريف الدراسة ستة جنيهات في العام للتلميذة الخارجية وثمانية جنيهات للتلميذة الداخلية .
المعلمون :
تضم أسرة التدريس خيرة المعلمين ، فالأستاذ الجليل الشيخ أحمد إبراهيم أستاذ التربية الإسلامية واللغة العربية والأستاذة نفيسة عوض الكريم التي تدرس المواد النسوية وتشرف على الداخليات ، وهناك معلمات مصريات لتدريس العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية ، ومعلمات بريطانيات يدرِّسْنَ اللغة الإنجليزية والفنون . تعلمنا في المدرسة المتوسطة كل أنواع الحياكة من تطريز وتفصيل وأعمال يدوية ومن الاقتصاد المنزلي ، درسنا طرق الغسل للملابس القطنية والحرير والصوفية وغسل أواني الفضة والنحاس وخلافه ، وأجدنا فنون الطبخ وعمل الحلوى والكيك والمخللات والأصناف الأخرى المختلفة ، كانت لنا علاقة طيبة بمعلماتنا نشكو لهن ونطرح مشاكلنا لهن دون حرج .
الإجازة جات يا ابتدائيات مرح بيها
المتلمذين حلاتهن الاثنين في الخياطة
نقيم مع معلمات من المناظرات والندوات والتمثيليات ، ويشاركننا في المناسبات الأسرية .
واصلتُ الدراسة في مدرسة الاتحاد العليا الثانوية Unity High School لكن المدرسة الإنجليزية التي تضم كل الجاليات الموجودة في الخرطوم وهي عبارة عن هيئة أمم تضم السودانية والمصرية والسورية والأرمنية واليونانية واللبنانية والإنجليزية والهندية وحتى اليهودية . وكانت اللغة المفروضة علينا هي اللغة الإنجليزية للتفاهم والتجاوب بين التلميذات وأسرة التدريس ، وقد ساعدنا في اللغة والتجاوب زميلات لنا سبقننا في الدراسة في هذه المؤسسة العامرة وهن السيدة فاطمة طالب ، والدكتورة خالدة زاهر ، والدكتور نزوري سركسيان ، والأستاذان إنجيل عزيز وإنجيل إسحق ، ومارجريت فانوس "أمنا هيلانة" ، وبفضل الزمالة ورفيقات الدراسة وباجتهادنا تفوقنا وتجلت مواهبنا ، فشاركنا في كل الأنشطة الثقافية والعلمية والرياضية كالتنس والسباحة وكرة السلة والكرة الطائرة ، واشتركنا في جمعيات الفنون والموسيقى والتمثيل والكشافة . أما مهرجانات المدرسة فنحن القائمات بأمرها ، وكان لنشيد فتاة الوطن الذي ألفه الشاعر صديق مدثر ولحنه الفنان أحمد المصطفى صدىً واسعاً داخل وخارج المدرسة :
يا فتاة الوطن يا خير البلاد
أنيري الوطن بنور الرشاد
وفي جمعية الفنون اشتركت في كثير من المسابقات الفنية ، منها مناسبة "على ضفاف النيل" وعلى الصحراء في مجال الطالبة المصرية وفزت بالجائزة الأولي والثانية .
عندما التحقنا بالمدرسـة واجهتنا مشكلة الترحيل من أم درمان إلى الخرطوم ، ومعظم الطالبات يسكنَّ البقعة المباركة ، فتكرمت مديرة التعليم البريطانية "المس كلارك" بتوفير عربة حكومية لترحيلنا من وإلى المدرسة . ومن الطرائف أن سميت هذه العربة "عربة الرأي العجيب" بسبب مقال كتبته الأستاذة نفيسة عوض الكريم لمحاربة الخفاض الفرعوني ، فعلق عليه أحد الكتاب في الصحف بأن "هذا رأي عجيب" .
ثم تحولت وزميلاتي إلى ركوب الترام بعد غياب "الرأي العجيب" ، وعملنا أبونيهات في الدرجة الخصوصي ، ولم نخلو من معاكسات المشاغبين فغيَّرنا إلى البصات الحكومية ثم إلى عربة والدي التي تتعارض مواعيدنا مع عمله ، فتكرمت زميلتنا فوزية أبوالعلا بترحيلنا في سيارتها الخاصة التي كان يقودها من وقت لآخر الفنان أحمد المصطفى ، فساهم في ترحيلنا من وإلى المدرسة حتى إلى النشاطات المدرسية المتعددة .
في مدرسة الاتحاد العليا هذه تعلمنا القيادة والعمل الطوعي ، فعملنا ونحن طالبات في رابطة الفتيات الثقافية ، أول جمعية نسائية أسستها الأستاذة فاطمة طالب عام 1947م ، ففتحنا فصول محو الأمية للنساء ، فعلمناهنَّ التفصيل والخياطة ، وأنشأنا مكتبة ضخمة تبرعاً من آبائنا ، ومن المجلس الثقافي البريطاني . نظمنا المحاضرات والندوات وأقمنا المهرجانات ، ثم واصلنا نشاطاتنا في تسيير الجمعيات النسائية الأخرى كجمعية ترقية المرأة ، ونهضة المرأة ، وجمعية المرشدات والاتحاد النسائي .
أما النشاط الديني فكان الفضل فيه لأخي عيسى من ضمن الأسرة المسلمة الأولى ومقرها منزلنا بأم درمان ، كنا نخبة من الأخوات: سعاد الفاتح البدوي ، وبثينة الشيخ القوصي ، وثريا أمبابي ، وكلتوم عمر ، وسعاد مكي ، وشقيقات الأستاذ صادق عبد الله ، وتلاوة القرآن ودراسة العلم الشرعي والفقه والتوحيد ، هدفنا التربية الروحية لأنفسنا ولمن حولنا ، والحمد لله فقد توسعت الأسرة ، ومنها بُذرت النواة الأولى للفتاة المسلمة في السودان ، وبحكم عملي فقد كونت عدة أسر بين زميلاتي المعلمات وبناتي الطالبات . وهكذا انتشرت الأسرة في كثير من بلاد السودان ، ولازلن نحن المعلمات الشعلة المضيئة بنور الله في بقاع الوطن – والله لا يطفئ نوره ولو كره الكافرون .
وقد توجت أسرتنا الأولى بإصدار مجلة المنار النسائية التي حالت الناحية المادة دون استمراريتها .
حياتي العملية :
تخرجت من الثانوي بشهادة أكسفورد وعينت أول معلمة سودانية في المدارس الوسطى في 4 أغسطس 1951 ونقلت لمدينة وادي حلفا حيث بدأت تجربتي العملية .
فُتحت مدرسة وادي حلفا الوسطى في مباني مؤقتة ، وضمت تلميذات من مدن الإقليم الشمالي من دنقلا ، وحلفا ، وبربر ، وعطبرة ، والدامر ، وشندي ومروي ، وبعض تلميذات من مديرية الخرطوم . وكنا أربع معلمات: السيدة سعاد أحمد فضل ، والمرحومة فريدة زاهر ، والسيدة وهيبة إبراهيم - ضابطة للداخلية - وشخصي. أحببت العمل في تلك المدينة الصحراوية الجميلة التي ينساب إليها نهر النيل من الجنوب وتكسو شواطئه أشجار النخيل الباسقة ، وحلفا هي الميناء الرئيسي للسفن والبواخر القادمة من أسوان في جمهورية مصر العربية ، ويوجد بها مطار دولي ومحطة سكة حديد للقطارات القادمة من الخرطوم وبها آثاراً عظيمة لمملكة النوبة العريقة ، وأهل حلفا فخورون بمدينتهم العامرة بالخيرات من أرضها وأرض الكنانة بجوارها . وقد قامت بيننا نحن المعلمات وأسر التلميذات علاقات طيبة وحميمة في كل من أرقين ، ودغيم ، ودبيرة ، ومدينة حلفا الأم. كنا نلتزم بجدول حصص يتكون من ستة وثلاثين حصة تشمل اللغتين العربية والإنجليزية والمواد الاجتماعية الأخرى ، كما أواصل النشاط المدرسي بعد الظهر دون ملل أو تعب ، ونقيم جمعيات أدبية وثقافية وكشافة ، ويشجعني في ذلك برودة الطقس ونشاط التلميذات وتفتح مواهبهن وحبهن للدراسة والتحصيل . وعندما يكون القمر ساطعاً نخرج في طوابير منتظمة إلى سفوح التلال الرملية البيضاء الناصعة ، حيث اللعب والجري والمسابقات. أما اجتماعات الكشافة فقد كنا نعقدها في حدائق الفندق الكبير. نُقلت المدرسة إلى مبانيها بمدينة عطبرة ، فقضيت فيها مدة عام ثم نُقلت إلى مدينة أم درمان الأميرية تلك المدينة الحبيبة في البقعة المباركة ، مسقط رأسي ، حيث أهلي وعشيرتي وصديقاتي من أسرة التدريس وخارجها ، وقد سكنت في الداخلية مع زميلاتي سعاد محمد عمر ، وصفية عبد القادر حاج الصافي. رغم قرب منزلي من المدرسة مارست هواياتي فكنت أعزف لهن في الأمسيات ، وكنت حينها أجيد العزف على العود والكمان الذي تعلمته على يد الأستاذ محمد إسماعيل الماحي الذي أكن له كل تقدير واحترام ، وكذلك الأستاذ مصطفى كامل - المصري الجنسية – والذي جاء من مصر لتدريس الموسيقى للإخوة الفنانين في الإذاعة السودانية ، وقد أحضره والدي ليعلمني النوتة الموسيقية في حصص منتظمة في المنزل.
كانت لنا في المدرسة نشاطات عديدة في الجمعيات المختلفة ، وخاصة جمعية الفلاحة نسبة لإتساع فناء المدرسة.
نقلت بعد ذلك إلى مدينة الأبيض - عروس الرمال - التي سمتها المس كلارك – مدير تعليم سويسرا "السودان" - ، ولما عملت فيها وجدتها مدينة أهلنا الكرماء ووجدت منهم كل حفاوة وكرم طيلة إقامتي بينهم.
في عام 1958م رجعت إلى وادي حلفا حيث عمل زوجي عمر بخيت العوض في القضاء ، وبمساعدة المسئولين هناك فتحت للمرة الثانية مدرسة وسطى جديدة في مباني المدرسة الابتدائية للبنات ، ثم أنتدب الأستاذ طه محمد طه ناظراً لها .
في عام 1961م عملت في المديرية الإستوائية في جنوب السودان كناظرة لمدرسة جوبا المتوسطة ، حيث تحوي هذه المدرسة تلميذات من مختلف الولايات الجنوبية من بحر الغزال ، وأعالي النيل والاستوائية. كانت العلاقة بين الجنوبيات والشماليات علاقة ودية قائمة على أسس حميدة قائمة على الزمالة والصداقة البريئة مما جعل مستوى الأداء العلمي والثقافي مميزاً ، وحفلت المدرسة بمناشط عديدة أشاد بها المسئولون في وزارة التربية والتعليم.
عدت للخرطوم في العام 1963 وسكنت في منزل حكومي مع أسرتي في الخرطوم شرق ، كانت لنا عدة نشاطات في الحي ، عملنا جمعية تعاونية نسائية مع لجنة مكونة من السيدات ، منهن فوزية فضل ونفيسة المليك وأم النصر عثمان ميرغني وفريال عبد الرحمن وأخريات وشخصي ، إفتتحنا دكان تعاون في جمعية الخرطوم شرق التعاونية وجمعنا تبرعات ولازال رصيد الجمعية مسجلاً بأحد البنوك بالخرطوم .
كانت النساء في الخرطوم شرق تدرسن الإسعافات الأولية والتمريض في دار الهلال الأحمر ، وتوجنا دراستنا بنيل الشهادات العالمية بقيادة السيد محجوب سلطان ، كما كانت هناك نشاطات للأطفال في السباحة ، يدربهم السباحون سليم وكيجاب وفضل وغيرهم في النادي الأرمني والثقافي في الخرطوم شرق . اشترك أبنائي أمل ومعز وأحمد في المسابقات حيث حصلوا على بعض الميداليات .
أما النشاط الكشفي فقد فتحت القائدة آنينا هيلانة فرقة مرشدات من فتيات الحي ، وكذلك كونت المرشدة سميرة حسن حمو فرقة للطيور الزرقاء الصغيرة يجتمعن في حديقة منزلنا كل منهما في يوم مختلف .
في التعليم كُلفتُ بفتح مدارس بنات الخرطوم غرب المتوسطة وريفي الخرطوم ، لذلك جمعت التلميذات من مدارس العاصمة الخرطوم وكرري وأم درمان والملازمين ، وبدأت بإنشاء فصل أولي في مدرسـة حلة حمد الابتدائية ، ولهذا الفصل الواحد أسرة تدريس تتكون من الأستاذات عاتكة شوقي ، وزينب كمال ، وفهيمة سبيل ، وكوثر إبراهيم - تحت إدارتي ، وجدنا كل تعاون من أسرة مدرسة حلة حمد الابتدائية ، وأكرمتنا مديرتها السيدة علوية عثمان الناجي بكل ما نحتاج إليه من أثاثات وأدوات مدرسية ، وكنت حينها أشرف على المباني الجديدة للمدرسة مع الأستاذ عبد الرازق عبد الغفار - مدير التعليم - والإخوة الموجهين في مكتب تعليم الخرطوم ، وفي العام التالي رُحِّلت المدرسة إلى مباني المدرسة الأهلية للبنين ، فساهم الأستاذ أحمد الزبير رشيد مدير المدرسة مشكوراً في تجهيز الفصول والداخليات لتلميذات الريف.
في العام 1963م رُحِّلت المدرسة إلى مبانيها العامرة والموجودة حالياً وهي مدرسة الخرطوم بحري (1) و (2) وريفي الخرطوم ، وفصل التغذية الذي يشرف عليه الأستاذ المرحوم السنوسي إبراهيم. وقد أختيرت نخبة من المعلمين والمعلمات لهذه المؤسسة التي حققت نجاحاً مرموقاً وذكرى طيبة باقية فكانت مركزاً للإجتماعات والتصحيح لجميع مدارس المنطقة حكومية وشعبية في تعاون وثيق .
نُقلتُ بعد ذلك إلى مكتب التوجيه الفني حيث مارست عملية التوجيه الفني في مدارس العاصمة جميعها بنين وبنات ثم كبيرة موجهين في مكتب تعليم أم درمان ، ثم كبيرة مشرفين تربويين لمكتب تعليم ولاية الخرطوم.
العمل الاجتماعي – تكوين الاتحاد النسائي :
في عام 1951م ويوم سفري لاستلام عملي في وادي حلفا كانت في وداعي بعض الزميلات: فاطمة طالب ، وأم سلمة سعيد ، وحاجة كاشف بحضور شقيقتي عزيزة مكي. ودار الحديث بيننا في قيام اتحاد نسائي للمرأة السودانية ليجمع شملها ، ويحقق أهدافها ، ونوقشت الفكرة طويلاً وأيدها الوالد حيث أقام حفل شاي لهذا الغرض ، وقد دعت إليه شقيقتي عزيزة رائدات العمل الطوعي في المنزل نتـج عنه قيام الاتحاد النسائي العظيم ، وفتحت له أنا أول فرع بوادي حلفا .
تسجيل الاتحاد الأم :
جمعية المرشدات السودانية :
اشتركتُ في غرفة مرشدات مدرسة الاتحاد العليا وبعض الزميلات ، ونحن الستة عشر بقيادة المس بيكر قائدة الفرقة وهي سيدة بريطانية نشطة ومرحة ومسلحة بمادتها الكشفية ، مما جعلنا نحن نحب المنشط الكشفي هذا الذي غرس فينا روح الريادة والقيادة والاعتماد على النفس وتحمل المسئولية. وكانت اجتماعات الفرقة تعقد بحديقة في سراي الحاكم العام "القصر الجمهوري".
تدرجت ُفي العمل الكشفي قائدة ومفتشة منطقة ثم أول رئيسة سودانية لجمعية المرشدات عام 1956م فكُرمتُ بشهادة تقديرية من المكتب العالي للمرشدات منحتني إياها الليدي بادن باول - مؤسسة حركة المرشدات في العالم -. وبفضل نشاط وجهود إخواتنا المرشدات توسعت الحركة وانتشرت في جميع مدن السودان في الشمال والجنوب والشرق والغرب ، فقمن بتدريب القائدات وأقمنا المعسكرات وفتحنا الفرق في المدارس السودانية والأجنبية وفي الأحياء ، وكونَّا مجالس الآباء والأمهات وأعيان البلد لإيجاد دور للجمعية التي سجلت في غازية السودان.
دور جمعية المرشدات :
منحنا مجلس بلدي أم درمان أرضاً واسعة غرب مبنى الإذاعة السودانية ، فشيدنا عليها دار مرشدات أم درمان بالعون الذاتي ، حيث أقمنا الأسواق الخيرية والمهرجانات ، وجمعنا التبرعات والهبات ، وحضرت الليدي بادن باول ووضعت الحجر الأساسي الذي لا زال موجوداً بها ، ولكن هذه الدار العتيقة اغتصبها الحكم العسكري الغابر وجعلها داراً للفنون الشعبية. كذلك بنينا دار مرشدات الخرطوم في تاريخ 17 بالخرطوم شرق ، حيث أصبحت الآن مكتب لرئاسة الحركة والاجتماعات ومقراً للتدريب ونزلاً لمرشدات السودان من الأقاليم والمرشدات من خارج السودان.
نشاطي الخارجي :
أوفدتُ وخمس مرشدات من الخرطوم وعطبرة هن: أم سلمة سعيد ، وإنجيل ميخائيل ، وصبحي مرقص وإيزابيل – من أصل أرمني – ، وبولين – يونانية – إلى معسكر دولي في المملكة المتحدة عام 1953م ، وحضرنا تتويج الملكة اليثابيث ، وكانت هذه بداية الانطلاق للتعرف على شباب العالم ، حيث ضم مخيم أقيم لنا فتيات من كل دول العالم ، ماعدا الدول الشيوعية التي لا توجد بها كشافة أو مرشدات حيث لا يوجد نشاط فكري أو شبابي حر.
معرض دمشق الدولي :
أنتدبت مع السيدة نفيسة عوض الكريم للإشراف على معروضات وزارة التربية والتعليم في معرض دمشق الدولي عام 1956م ، وشمل المعرض كثيراً من المهن السودانية وإنتاج المدارس من الخياطة والتطريز والأعمال اليدوية. وقد احتوى المعرض على بعض الزواحف كالتماسيح الحية وضعت داخل بركة في جناح المعرض مما لفت أنظار جميع الزائرين ، وقد كانت شلوخ السيدة نفيسة تثير تعليقات السوريين فيسألوا عنها ، وتجيبهم بروح النكتة والسخرية بأنها موضة قديمة في السودان ، فيشيرون بيننا هذه موضة قديمة وهذه موضة جديدة !!
حلقات دراسية في العمل الطوعي :
نظم المكتب العربي للمرشدات دراسة في التنظيم والإدارة لرئيسات وأصحاب المال من المرشدات في الوطن العربي في مدينة الكويت الشقيقة ، فحضرت هذا السمنار بصفتي أمينة المال لجمعية المرشدات السودانية ، وكذلك حضرت أم سلمة سعيد - رئيسة الجمعية - ، وقد استفدنا كثيراً من خبرات واختصاصات هذا السمنار من المكتب العالمي.
في عام 1959م حضرت حلقة نقاش دراسية في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية بدعـوة من جمعيـة الصداقة والمراسـلات العالمية: Friendship International Communication Society ، وقد حضرت هذه الدراسة سيدات من الهيئات النسائية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من مصر ، وتونس ، والمغرب ، وليبيا ، وسوريا ، والأردن ، ولبنان ، والكويت وتركيا ، ومن السودان السيدة ثريا أمبابي وشخصي. وعند نهاية السمنار أعدت لنا برامج زيارات لدور العلم والمتاحف والجمعيات الخيرية والطوعية ، وتجولنا في مناطق أثرية وسياحية في ولايات أمريكية عديدة ، وقمنا بزيارة سيدة البيت الأبيض الأمريكي آنذاك الليدي إيزنهاور في واشنطن ، فأعجبت بالثوب السوداني أيما إعجاب وقالت لي: (أنت بثوبك الأبيض تبدين كالملاك) you look like an angle ، فقلت لها هذا ثوب زفافي لبسته خصيصاً لزيارتك ويسمى عندنا بـ"السودنة" ، وشرحت لها معنى السودنة ، فقالت لي إحدى المرافقات: هذه دبلوماسية سودانية.
في طريق عودتي قضيت ثلاثة أيام مع مرشدات هولندا في أمستردام لأن الطائرة التي أقلتنا من نيويورك غيرت اتجاهها بسبب التيار البارد ، وكانت الطائرة المتجهة إلى روما ثم باريس قد غادرت المطار ، فاتصلت تلفونياً بالمرشدات الهولنديات ، فرحن بي وبمقدمي وأخذنني إلى دارهن بعد أن سلموا جواز سفري إلى سلطات المطار واحتفوا بي ، وشاهدت كثيراً من مناشطهن الكشفية بمناسبة عيد الزهور في بلدهن .
في باريس رحبت بنا الأستاذة سعاد علام – حرم المرحوم الدبلوماسي إسماعيل المليك - ، ووجدت في ضيافتها الأخوات نفيسة المليك ، ومحاسن جيلاني اللاتي حضرن بدعوة كريمة من المجلس الثقافي البريطاني ، فوجدت عندهن كل حفاوة وتكريم ، فكانت رحلة أوربية ممتعة لم أخطط لها ولكنها جاءت بسبب تأخير الطائرة .
مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي International Women Alliance :
وصلتني دعوة من الاتحاد النسائي العالمي لحضور هذا المؤتمر الذي ضم نساءاً يعملن في مجال العمل النسوي الطوعي من جميع أنحاء العالم ، من إفريقيا وأوربا ، وأسيا ، وأمريكا. كان ذلك عام 1969م ، وعقد هذا المؤتمر بأديس أبابا وفوجئت بحضور الدكتورة سلمى محمد سليمان – إحدى عضوات المؤتمر-. ناقشت نساء العالم موضوع وضع المرأة في الدول النامية وقدمتُ بعض المقترحات الجميلة لمساعدة نساء تلك الدول من حيث الخبرة والمادة ، والاتصالات عن طريق الزيارات والنشرات والدورات التدريبية في العمل الطوعي.
استقبلنا بأديس أبابا الإمبراطور الراحل هيلاسلاسي في قصره ، وعند مرورنا في الطابور أمامه بالثوب السوداني بدون إنحناءة منا نحن الاثنتين كما فعلنا في المؤتمرات طلب منا الوقوف بجانبه ، فتحدث إلينا ذاكراً حبه للخرطوم الذي عاش فيه فترة من الزمن بالقرب من ميدان أبوجنزير في شارع القصر وطلب من ابنته هيلي مريام إهداءنا فرو من جلود القرود النادرة التي تعيش في غابات أثيوبيا ففعلت مشكورة.
مؤتمرات المرشدات العالمية :
حضرت مؤتمـر المرشدات العالمي التاسع في أثينا في اليونان عام 1962م ، وقد أضفى حضور الليدي بادن باول صدىً واسعاً لهذا المؤتمر في وسائل الإعلام والصحف الأوربية واليونانية خاصة لما لهذه السيدة من مكانة خاصة بين نساء العالم العظيمات. وفي هذه المؤتمرات العالمية التي تعقد كل ثلاث سنوات في قطر ما ، توضع السياسات والبرامج الكشفية وتنتخب اللجان التي تسير العمل الكشفي في أرجاء العالم.
في هذا المؤتمر تعرفت على سيدة هندية شاركتني الغرفة في الفندق فتعلمت منها الرقص الهندي وعلمتها الرقص السوداني ، فكانت لفتة أشادت بها المؤتمرات بتطبيق أحد قوانين المرشدات:"المرشدة صديقة للجميع وأخت لكل مرشدة أخرى" ، كما نال الثوب السوداني كذلك إعجاب ملك اليونان عند زيارتنا له في قصره بأثينا ، فعبر عنه بالتحدث عن الزي السوداني في كلمته للوفود.
كنت كذلك عضواً في مؤتمر المرشدات العالمي الحادي عشر في هلسنكي في فنلندا، ومن ذكرياته اللطيفة أن صحونا والأخت أم سلمة سعيد عضو - المؤتمر- التي كانت تشاركني الغرفة ، وما أن رأينا الشمس في كبد السماء حتى ارتدينا الملابس الرسمية وخرجنا مسرعات لحضور افتتاح المؤتمر المزمع قيامه في التاسعة صباحاً ، ولكن توقفنا عند مدخل الفندق عندما عرفنا أن الساعة تدق الثانية عشر عند منتصف الليل.
في هذا المؤتمر حظينا بمشاركة ملك الدنمارك في جلسات المؤتمر كما اصطحبنا في رحلة بحرية في بحر البلطيق.
المؤتمر العالمي السابع عشر :
عقد هذا المؤتمر في نيروبي بكينيا عام 1983م وكنت والسيدة سكينة الجزولي مندوبات السودان لهذا المؤتمر الحافل والذي يعتبر أكبر تجمع كشفي عالمي. فقد جاءت مرشدات من قارات العالم الست في هذه القارة الإفريقية كما وجدت نشاطات جمعيات الدول العربية المشاركات في المؤتمرات ، وكان معرض السودان مشرفاً نال إعجاب الجميع ، وكان لابد لنا أن نتصرف لتغطية نفقات المؤتمر ودفع اشتراكات السودان المتأخرة لعدة سنوات فاضطررنا لبيع الحنة التي أحضرناها للمعرض وسددنا ما علينا من ديون ، وهكذا خرجنا من الحرج.
اللقاءات والمؤتمرات العربية :
عقد المؤتمر السابع في الرباط بالمملكة المغربية ، تلك المدينة ذات المناخ الرائع والطبيعة الجميلة الساحرة ، وقد اصطحبتني إبنتي أماني لحضور المخيم الذي تزامن قيامه مع المؤتمر. فكان تجمعاً عربياً ناجحاً ، خرج منه المؤتمر بقرارات وتوصيات عظيمة منها توحيد المصطلحات العربية الكشفية وتكوين لجان مشتركة للتدريب ووضع المناهج والبرامج للوطن العربي.
مؤتمر ومخيم طرابلس العربي الثامن :
كان لهذا المؤتمر صدىً جميلاً في المجتمع الليبي وعقد مؤتمر الكشافين كذلك في نفس الزمن ، وخاطب الرئيس معمر القذافي المؤتمرين من الجانبين بثناء عاطر للحركة الكشفية وحث الشباب العربي على حمل السلاح ومكافحة الاستعمار الغربي أينما كان .
المؤتمر العربي الحادي عشر :
عقد المؤتمر العربي الحادي عشر في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة تحت رعاية صاحب السمو الشيخ زائد بن سلطان آل نهيان عام 1988م ، وحضر هذا المؤتمر مرشدات من الدول العربية بما في ذلك مرشدات مبتدئات من جيبوتي وموريتانيا والصومال وعضوات من المكتب العالمي واللجنة العالمية ، وكنت ضمن وفد مرشدات السودان ، وهذا أول مؤتمر كشفي في العالم تستضيف فيه الدولة جميع المشتركات في المؤتمر ، إقامة وإعاشة مع دفع تذاكر السفر لبعض المشتركات من الدول العربية تشجيعاً لحضورهن للمؤتمر ، ويطيب لي أن أسجل كلمة شكر وتقدير للتكريم والحفاوة العظيمة التي خصت بها الشيخة فاطمة حرم رئيس الدولة وفد مرشدات السودان ، جزاء الله كل خير.
لقاءات :
كان لنا لقاء مع مرشدات جمهورية مصر العربية في القاهرة في وفد مكون من السيدة أم سلمة سعيد – رئيس المجلس الأعلى لجمعيتي الكشافة والمرشدات - والسيد مكي محمد بابكر - أمين المجلس – وشخصي لوضع برامج ومناهج الجمعيتين السودانية والمصرية بغرض التكامل ، وكان لقاءاً طيباً وودياً أثمرت نتائجه .
النشاط الخارجي :
كنت ضمن اللجنة التي اختيرت من المكتب العربي لتدريب المرشدات العمانيات والمرشدات السعوديات في سلطنة عمان ، واللجنة تتكون من أربع سيدات: السيدة عفاف فتحي المفوضة العربية – مصرية الجنسية – وقائدتين من الكويت والسودان. في طريقي لمسقط كان لابد أن أقضي ليلة ترانزيت في مطار دبي ، لكن الكرم السوداني حتم إقامتي في منزل أسرة سودانية وليها أحد الإخوة المسئولون عن الخطوط الجوية السودانية في دبي ، فلهم كل الشكر والتقدير ، كما أود أن أشيد بكرم السيد شرف وحرمه لما وجدته من اهتمام وتكريم ورعاية خلال فترة إقامتي في السلطنة ، ثم إنهم قد استخرجوا لي تذكرة سفر بالطائرة للقاهرة في طريق عودتي للخرطوم حتى تثنى لي زيارة إبنتي أمل التي كانت تدرس آنذاك في الجامعة وتقيم مع شقيقتي عزيزة - مستشارة السفارة السودانية لشئون الطالبات في القاهرة -. أما التدريب فقد شمل القائدات في المجال الكشفي ومعظمهن من المعلمات من جميع المناطق وبعض قائدات من اليمن والسعودية.
قد أسعدني أن أشاد وزير التربية العماني في حديثه معي في الحفل الختامي للدورة بالمعلمين السودانيين من حيث عملهم وآراءهم وحسن أخلاقهم ، وكانت الأستاذة زهراء حاج الطاهر خير مثال لذلك. أما الأستاذة نادية فقد كانت بمثابة الإبنة الحنون في اصطحابي ومرافقتي في كل تحركاتي في أوقات الفراغ بعربتها الخاصة.
الإقامة في أبو ظبي :
ترك زوجي العمل كنائب لرئيس القضاء في السودان بعد إحالته للمعاش والتحق بالعمل في المحكمة الاتحادية العليا في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة وانتقلت أنا وأبنائي لمنزلنا في الصافية بالخرطوم بحري.
وواصلت عملي كبيرة موجهين بمكتب تعليم أم درمان ، ثم كبيرة مشرفين تربويين بمكتب قسم الخرطوم ، ثم طلبت معاشي الاختياري لمرافقة زوجي بعد أن الحقت أصغر بناتي بالجامعة ، وقبل مغادرتي للاستقرار في أبو ظبي فتحت روضة أطفال خاصة بغرض مساعدة المرأة بصفة عامة والمعلمات بصفة خاصة لتحفظ أبنائهن في مكان أمين عند غيابها في العمل .
هذا هو مشوار حياتي أسطره أنموذجاً وغدوة لبناتي وأبنائي وأهلي وعشيرتي وكل مَنْ صحبني فيه أو مد يد المساهمة فيه ويظل النجاح والتوفيق من فوق هاماته. والفضل كله أولاً وأخيراً لله الذي لا تتم الصالحات إلا بتوفيقه ، ولزوجي الذي لولاه ما كان هذا المشوار. وقد حرصت على ذكر هذه التفاصيل حتى لا أبخس أحداً ولن أنسى ذكرى لأحد ممن صحبوني في هذا المشوار ، وشاركوا في المسيرة ، ولا أنسى أن أكرر أن كل ما أصبناه من نجاح وكل ما وجدناه من توفيق وبما تغشانا من فضل فقد كان بإذن الله ومراده هو امتداد للتربية القديمة التي أنشأنا عليه الوالد الكريم وامتداد للمجتمع العائلي الرفيق الذي كان معلماً نادراً في كل المجتمع السوداني من حيث سلامة التوجه ، صفاء السريرة ، وقوة العزيمة وكثرة الخير والفضل ، والذي تلقيته من تربية حسنة وخلق فاضل ، وما يزال هو كذلك وسوف يظل كذا وإلى الأبد أمانة أخذناها من جدودنا وآبائنا وحملناها أنا وإخوتي بصدق ونحملها للجيل الذي بين أيدينا الآن لينقلوها بدورهم للأجيال القادمة إرثاً طيباً ، وإرثاً مباركاً في الخالدين .
زكية مكي عثمان أزرق